بحث الدكتور معراج احمد إسماعيل الحديدي في الملتقى الوطني الأول للذكرى السادسة لرحيل الرئيس جلال طالباني

2024-03-17

(دور الرئيس جلال الطالباني في استقرار كركوك)* 

المقدمة:
تعد منطقة كركوك واحدة من المناطق الحساسة في العراق،  حيث شهدت على مرّ العقود توترات سياسية وعرقية تُهدد استقرارها،  وتاريخها الطويل مليء بالتحديات التي تشمل الصراعات القومية والتموضعات السياسية، وكان لها تأثير كبير على الوحدة الوطنية للعراق، في هذا السياق يأتي دور الرئيس جلال الطالباني كشخصية سياسية بارزة وقائد بارع، للمساهمة في تحقيق التوازن السياسي في استقرار كركوك وضمان مشاركة جميع المكونات في صنع القرار وتخفيف التوترات الدائرة في هذه المنطقة الحيوية.

يعتبر جلال الطالباني واحدا من الشخصيات السياسية التي قدمت الكثير للعراق على مرّ السنوات، وكان له تأثير كبير على توجهات البلاد، يُعتبر رئيسا لمجلس الحكم السابق، ورئيسا للبلاد لدورتين متتاليتين، ومن خلال تفانيه في الخدمة الوطنية وقيادته الحكيمة، استطاع الرئيس جلال الطالباني أن يثبت نفسه كواحد من القادة الرئيسيين في العراق.

    إن فهم دور الرئيس جلال الطالباني في استقرار كركوك يتطلب تحليلا شاملا لتاريخه وجهوده السياسية وطرقه الدبلوماسية التي بذلها لحل النزاعات وتعزيز التعايش السلمي بين الأعراق والمذاهب المختلفة في المنطقة،  حيث تعكس هذه الدراسة جهوده المباركة وتأثيره الإيجابي في تحقيق الاستقرار في كركوك وتعزيز الوحدة الوطنية في العراق.
بناء على ما تقدم يمكن أن نتناول هذه الورقة من عدة محاور نتناول فيها/ ما يأتي: 
1-السيرة الذاتية للرئيس جلال الطالباني. 
2-السياق التاريخي لكركوك. 
3-دور الرئيس جلال الطالباني في التوازن السياسي.

أولا  -السيرة الذاتية للرئيس جلال الطالباني:
____________________
يتميز الرئيس جلال الطالباني بتاريخ حافل بين النضال والثورة تارة، والعمل السياسي التنظيمي تارة أخرى، فضلا عن تجربة طويلة اكتسب من خلالها الحنكة والمناورة والخبرة، يمكن لنا أن نوجزها على النحو الآتي: 
1-المولد والنشأة: ولد جلال الطالباني يو م 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1933  في قرية كلكان على  سفح  جبل  كوسر ت  المطلة  على  بحير ة  دوكان  التابع  لقضاء  كوية   في  محافظة  السليمانية العراقية،  ويعرف  في صفو ف الأكراد باسم ما م جلال (العم جلال)، أطلقت عليه هذه التسمية منذ أن كان صغيرا.

2-الدراسة والتكوين: دخل كلية الحقوق في بغداد عام 1953 لكنه اضطر لتر ك الدراسة  حينما  كا ن   في  السنة  الرابعة  عام  1956  هربا من الاعتقال بسبب نشاطه في اتحاد الطلبة الكردستاني. وفي يوليو/تموز 1958، وعقب الإطاحة بالملكية الهاشمية، عاد طالباني إلى كلية الحقوق وتابع في الوقت نفسه عمله صحفيا ومحررا لمجلتي خابات وكردستان، وبعد تخرجه عام 1959  استدعي لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش العراقي حيث خدم في وحدتي المدفعية والمدرعات، وكان قائدا لوحدة دبابات.

3-التجربة السياسية:  أصبح عضو ا في الحزب الديمقراطي الكردي عام  1947، وتميز بنشاطه  وكفاءته   في  أدا ء  الواجبات  والمهمات  الحزبية  التي  كان  مكلفا بها، وعندما اندلع التمرد الكردي ضد حكومة عبد الكريم قاسم في سبتمبر/أيلول  1961  كان الطالباني مسؤولا عن جبهتي القتال في كركوك والسليمانية.
    وفي منتصف الستينيات، تولى عددا من المهام الدبلوماسية التي مثل فيها القيادة الكردية في اجتماعات في أوروبا والشرق الأوسط، وعندما انشق الحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1964 كان الطالباني عضوا في مجموعة المكتب السياسي التي انفصلت عن قيادة الملُاّ مصطفى بارزاني.
    وقد أدى انهيار الثورة الكردية في مارس/آذار 1975 إلى أزمة كبيرة لأكراد العراق، وإيمانا منه بأن الوقت مناسب لإعطاء توجيه جديد للمقاومة الكردية والمجتمع الكردي، أسس الطالباني مع مجموعة من المفكرين والنشطاء الأكراد الاتحاد الوطني الكردستاني. 

    بعد ذلك سعى الطالباني إلى إيجاد تسوية تفاوضية للتغلب على المشاكل التي اجتاحت الحكومة الكردية، بالإضافة إلى القضية الأكبر وهي حقوق الأكراد في محيط المنطقة الحالية، وقد استفاد هو وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني من خسارة الجيش العراقي في حر ب الخليج الثانية عام 1991 بإقامة إقليم كردي شبه مستقل في كردستان العرا ق .
    وبدأت حقبة جديدة في حياة الطالباني السياسية بعد حرب الخليج الثانية وانتفاضة الأكراد في الشمال ضد الحكومة العراقية، ومهّد إعلان التحالف الغربي عن منطقة حظر الطيران شكلّت ملاذا للأكراد لبداية تقارب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني. 

    وبعد غزو العراق في مارس/آذار 2003، دخل الطالباني العملية السياسية في العراق وشغل مواقع قيادية بارزة أهمها عضو مجلس الحكم ورئيسه في 2004 ، وفي أول دورة نيابية تم انتخابه من قبل البرلمان العراقي رئيسا لجمهورية العراق, ثم أعيد انتخابه في 2010 لولاية ثانية بعد حصوله على غالبية الأصوات كمرشح عن الكتلة الكردستانية.
    وخلال فترة رئاسته لجمهورية العراق، كان مام جلال أبا للسلام والتعايش والوقوف على مسافة واحدة مع الأطراف المختلفة، وكان بمثابة مظلة جامعة للمكونات والقوميات كافة، كانت مائدته العامرة في قصر السلام دوما مكانا جامعا للفرقاء،  من اجل السلام والتصالح والعمل المشترك. 

   حيث كان بحق صمام أمان العراق كما وصفه سماحة السيد علي السيستاني، وعلى الصعيد الإقليمي والعراقي،  أعطت رئاسة مام جلال هيبة وطابعا جديدا للعراق الديمقراطي رغم صعوبات مرحلة مواجهة الإرهاب والعنف الطائفي في البلد.
4-المرض والوفاة:
عانى الطالباني  في  السنوات  الأخيرة  من  حياته من  مشاكل  صحية،   حيث  أدخل  إلى  مدينة الحسين  الطبية  في الأردن  في  25  فبراير/شباط  2007  بعد  وعكة  صحية  أصابته،  وأجريت  له عملية جراحية للقلب في الولايات المتحدة  في أغسطس /آب 2008، و في نهاية عا م 2012 غادر العراق للعلاج  في ألمانيا من جلطة أصيب به ودخل على إثرها في غيبوبة،  ومكث هناك نحو عام ونصف حتى عا د للعرا ق /السليمانية  في يوليو/تمو ز 2014، واستقر في دباشان، وفي 3-10-2017 فارق الحياة.
وغالبا ما كان يردد كلمات الشاعر والأديب الكردي الحاج قادر الكويي، ويقول إن :
الموت والحياة كالظل والشمس             والذي يبقى هو الذكر الجميل
وفعلا رحل هذا المصلح الاجتماعي وترك أثرا جميلا في التواضع وتاريخا كبيرا في المصالحة وبصمة خالدة في السياسة. 

ثانيا-السياق التاريخي لمدينة كركوك: 
كانت مدينة كركوك، المركز الرئيس للثروة النفطية في العراق والعقدة الديمغرافية الحساسة في شماله، وأنها جزء مما يسمى بـالمناطق المتنازع عليها  (وهو المصطلح المعتمد للمناطق المختلطة عرقيا ولغويا ودينيا في العراق بعد تغيير النظام).  
1-كركوك جغرافيا:  تقع كركوك،  كحد فاصل بين المنطقة الجبلية والسهلية،  من أرض العراق،  تحدها شمالا محافظة أربيل وشرقا محافظة السليمانية،  وغربا الجزء الشمالي من محافظة صلاح الدين كانت حتى 1976 جزءا من محافظة بغداد، وجنوبا محافظة ديالى، وهي تبعد عن أربيل بمسافة 92 كلم وعن السليمانية 109 كلم وعن عاصمة بغداد 255 كلم.

ولو نظرت في خرائط العراق لوجدت موقعها منه موقع القلب، أعلى الحجاب الحاجز، في الوسط مع ميل إلى جهة اليسار، وحسب خريطة 1957، يعطيك هذا الموقع كم هي قريبة من العراق كافة!!. أما التسمية فكركوك مدينة من مدن العراق القديمة، اختلف المؤرخون في أصل إسمها، بيّن أن تكون منحوتة من كركر( أي شعلة النار، فأخبار نفطها كانت معروفة من قبل التاريخ، كما تقدم، أو من كرخ سلوخ الآرامية أو حسب التسمية الكَنسَية الشرقية لها).
تبلغ مساحة كركوك 28 ألفا و679 كيلومترا مربعا، ويبلغ عدد سكانها مليونا وستمائة ألف نسمة حسب الأرقام الصادرة عن الموقع الرسمي لمحافظة كركوك،  وكذلك حسب الاستحقاق الرسمي لعدد مقاعد مجلس المحافظة الصادر عن المفوضية العليا للانتخابات. 

2-النزاعات العرقية والسياسية فيها: منذ تأسيس العراق الحديث، شهدت كركوك نزاعات دائمة بين مختلف المكونات العرقية والطائفية، تأثرت المدينة بالنزاعات الإقليمية والدولية، مما أثَّر على الوضع السياسي والاجتماعي، وهذا الأمر ليس وليد اللحظة بل على مدة عقود وهذه المدينة تتوالى فيها الأزمات بسبب التعددية التي تملكها، وقد حصلت فيها العديد من الأزمات أهمها الاقتتال الكردي التركمان في إبّان ثورة 1959 وما نتج عنها من اقتتال بين الجانبين، وكذلك ظلّت كركوك واحدة من أسباب فشل المباحثات بين الحكومة العراقية والقيادة الكردية في السبعينات،  فالأكراد إذ يعترفون باختلاطها القومي،  فإنهم ينظرون إليها كجزء من جغرافية إقليم كردستان، بل وصفت بأنها قدس الأقداس بالنسبة للأكراد.
3-بعد العام 2003: مع سقوط النظام البعثي في عام 2003، شهدت كركوك تحولات كبيرة في الوضع السياسي. أصبحت المنطقة محل اهتمام دولي وإقليمي بسبب النفط والنزاعات العرقية وصنفت على أنها من ضمن المناطق المتنازع عليها المنصوص عليها في المادة 140 من الدستور العراقي النافذ لعام 2005. 

لذلك تشهد كركوك لسنوات طويلة مستثنية من انتخابات مجالس المحافظات العراقية نظرا لوضعها الخاص، وهي واقعة في نزاع بين الأقوام. وبالتأكيد السياسة وراء ذلك ـــ أما الناس فعاشوا وما زالوا يعيشون متجاورين متشاركين في العزائم والعزاء ـــ تبع هذا الموقف تسابق التركمان والكرد والعرب،  في تأكيد كل منهم أحقيته التاريخية أو أسبقيته بالمنطقة،  فالكتاب والباحثون الكرد يؤكدون كردية كركوك وحداثة الوجود التركمان فيها الذي يعيدونه إلى السلطان العثمان مراد الرابع،  أي القرن السابع عشر الميلادي تقريبا،  أما العرب فما زالوا متمسكون بأنهم الأصل في البلاد والآخر هو دخيلا عليها.

    مما تقدم يبقى السياق السياسي في كركوك تحت تأثير التحديات الحالية مثل النزاعات العرقية والمطالبات السياسية،  ويعكس التوازن السياسي في المدينة والمنطقة،  الجهود المستمرة للتوصل إلى حلول سلمية ومستدامة.
ثالثا- مساهمات الرئيس جلال الطالباني في تحقيق التوازن السياسي لكركوك: 
كان ومازال الرئيس جلال الطالباني، الشخصية السياسية البارزة في العراق، لعب دورا هاما في تعزيز استقرار كركوك والمناطق المتنازع عليها خلال فترته السياسية، ومن المهم أن نلاحظ أن الطالباني لّم يكن رئيسا في معنى التنفيذ الحكومي، وبقدر ما كان له تأثير كبير كشخصية سياسية وزعيم في العراق بسبب الكاريزما والحكمة التي يمتلكها. ومن اهم الجهود التي توضح دوره في استقرار كركوك هي ما يأتي: 
1-الوساطة والتواصل: كان الطالباني معروفا بقدرته على التواصل مع مختلف الأطراف في كركوك، سواء كانوا عربا أو كردا أو تركمانا. وقام بوساطة الحوار بين هذه الأطراف وعمل على تقريب وجهات النظر من خلال الاجتماع بين جميع الفرقاء على المستوى السياسي والاجتماعي. 

2-تعزيز التعايش السلمي: دعا الطالباني دائما إلى ضرورة تعزيز التعايش السلمي بين مختلف المكونات العرقية والدينية في كركوك،  حيث كان يروج لمفهوم الجماعة والمواطنة وان الهوية الوطنية هي الجامعة، بغض النظر عن الخلفيات العرقية، وله في هذا المجال مساهمة كبيرة وفعالة بنشر مفهوم الشراكة والتعاون والحلول السلمية. 

3-تقديم المشورة السياسية: كان الطالباني يقدم المشورة السياسية للقوى السياسية في العراق حول كيفية التعامل مع قضايا كركوك وتحقيق التوازن فيها،  كما كان له تأثير كبير في صياغة السياسات الوطنية المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها.

4-حل مشكلة المناصب الإدارية في كركوك: إن مام جلال له فضل في حل أزمة المناصب الإدارية لكركوك حيث أنه صاحب فكرة التوازن الإداري فيما يتعلق بتسيير المناصب في المحافظة كحل يرضي جميع الأطراف، من خلال تبني فكرة النسبة والتناسب للمكونات، حيث أعطى لكل مكوّن من العرب والكرد والتركمان نسبة 33% ويبقى نسبة 1% أعطاه للمكون المسيحي، وهذه الطرح حسم جدالا  كبيرا على مستوى المناصب وأصبح عرفا ساريا بالمحافظة. وبناءا على هذا الأمر صدر أمر ديواني من قبل مجلس الوزراء لتحقيق التوازن المعمول به في كركوك.

5- المساهمة في الحوار الوطني: شارك الطالباني في الحوارات الوطنية والمفاوضات التي تهدف إلى حل النزاعات وتحقيق الاستقرار في العراق بشكل عام،  كان يعتبر مصلحة الوحدة والاستقرار الوطنيين أمرا أساسيا، كما إن الطالباني ركزَّ على ضرورة التعاون بين مختلف المناطق في العراق، بما في ذلك إقليم كردستان وباقي المناطق، لتحقيق الاستقرار والتنمية.

الخاتمة: 
يتضح من خلال هذه الورقة إن السياق السياسي لمدينة كركوك أهمية في فهم التاريخ والديناميات التي شكلتها على مر العصور، ويتطلب التحقيق في هذا السياق مزيدا من الجهد والتفاهم للمساهمة في تعزيز الاستقرار والوحدة في المدينة والعراق بشكل عام.
بهذا الخصوص أصدر مجلس الوزراء الأمر الديواني بالعدد 4/س لسنة 2018 خلال اجتماع مجلس الوزراء في 9/12/2017 الخاص بـ (إعادة التوازن بين مكونات محافظة كركوك).
وبشكل عام، يمكن القول أن دور الرئيس جلال الطالباني في استقرار كركوك كان مرتبطا بالوساطة والتواصل بين الأطراف المتنازعة وتشجيع التعايش السلمي والحوار الوطني، وكان له تأثير كبير في تقليل حدّة التوترات والمساهمة في بناء مستقبل أفضل لكركوك والعراق ككل.
    كما كان يعتقد أن تحقيق التوازن السياسي والاجتماعي في المناطق في كركوك والمتنازع عليها كان أمرا حاسما للحفاظ على الاستقرار، من خلال العمل على موازنة المصالح والحقوق بين كل الأطراف المختلفة. والتشديد دائما على ضرورة وضع مصلحة العراق ككل في المقدمة، وذلك من خلال تجنب التصعيد والنزاعات التي تؤثر سلبا على الوحدة الوطنية.
*الدكتور معراج احمد إسماعيل الحديدي

 

المزيد

Copyright © 2025 . PJT Foundation. All right reserved