طالباني..رئیسا للعراق ولکل العراقیین

2024-10-16
 
قد تکون أغلب المتاعب الصحیة التي ألمت بالرئیس جلال طالباني، وراؤها سبب واحد، هو أنە صار رئیسا للعراق، فهذا المنصب الذي قد یراە الکثیرون شرفیا، منزوع الصلاحیات و القوة في ‌إطار نظام الحکم في العراق بعد سقوط حزب البعث و صدام حسین، هو نظام برلماني لا سلطات فیە لرئیس الجمهوریة، غیر أن ذلك ربما کان یمکن أن یکون طبیعیا و مستساغا إذا کان من یجلس في القصر الجمهوري شخص آخر غیر جلال طالباني، فهذا الرجل بترکیبتە وطبیعة شخصیتە، وکونە زعیم وقائد، علاوة علی خبراتە السیاسیة المتراکمة علی مدار أکثر من خمسة عقود، انغمس فیها في السیاسة حتی أذنیە، بالإضافة إلی ما یتمیز بە من حكمة و مهارة في القیادة و الزعامة ومعالجة الأزمات، کان لا یمکنە قبول أن یکون رئیسا شرفیا منزوع السلطات و الصلاحیات، فهو یؤمن بأن الحقوق و الصلاحیات لاتمنح و إنما تکتسب، وعلی هذا فإن جلال طالباني استطاع رغم قیود الدستور العراقي أن یکون طرفا اساسیا حکم العراق، لم یغیر موادا دستوریة لیحقق ذلك، و إنما هو مارس دورە الوطني فقط، و فرض شخصیتە ووجودە، فصار خیمة تجمع مختلف الفرقاء السیاسیین، و تجمع کل القوی والتيارات السیاسیة، وتقرب وجهات النظر بینها، و تشیع أجواء التقارب و تشجیع الحوار و التعاون، و تنزع فتیل الأزمات قبل اندلاعها.
غیر أن هذا الدور الذي مارسە جلال طالباني منذ الیوم الأول لە في القصر الجمهوري، کان لە أکبر الأثر علی صحتە، فأصیب بأکثر من وعکة صحیة، فالرجل ومع تقدم عمرە لم یعد یتحمل الضغوط العصبیة التي تفرضها الحالة السیاسیة في العراق، و الصراعات و المنافسات و التصریحات و المواقف المتشنجة من مختلف القوی السیاسیة.
وقد دفع الثمن غالیا من صحتە، لیصاب بأزمتە الصحیة الکبیرة في نهایة عام 2012، علی خلفیة الأزمة الشدیدة بین رئیس الحکومة المرکزیة نوري المالکي، و رئیس إقلیم کردستان مسعود بارزاني، لیمارس الرجل جهودا جبارة في تقریب وجهات النظر و إطفاء نیرانها قبل أن تشتعل.
فجلال طالباني، الکردي الأصل، و الزعیم القومي الذي ناضل طوال حیاتە من أجل قضیة الشعب الکردي، تسامی علی انتمائە القومي، لیحافظ علی بقاء العراق و ابعادە عن شبح الانهیار و الحرب الأهلیة.
والحقیقة أن هذا الموقف من جلال طالباني لم یکن الأول، کما أنە لیس موقفا طارئا، بل هو موقف ثابت أالزم طالباني نفسە بە، منذ أن تولی رئاسة العراق. حیث أنە نزع ملابسە الکردیة، ووضع العباءة العراقیة، باعتبار أنە سیسجد الشخصیة العراقیة وسیکون رئیسا للعراق ولیس للأکراد فقط.
و منذ الیوم الأول لە في المنصب، وق علی مسافة واحدة من کل الأطراف السیاسیة وکثیرا ما قام بجهود وساطة للتقریب بینها، وهو أعلنها صریحة أکثر من مرة سواء للقوی السیاسیة أو للرأي العام، بأنە باعتبارە رئیس الجمهوریة سیکون محایدا ویقف علی مسافة واحدة من الجمیع. فهو رسم لنفسە دورە بأن یکون دور الوسیط و الشخص الجامع للکل، الذي یؤلف بین قلوبهم، دون أن ینحاز إلی طرف ضد الآخر، حتی لا یعرقل جهودە من أجل التقارب و الوساطة.
وقد ساعدە ما تمیز بە من علاقات شخصیة قویة مع مختلف قادة القوی السیاسة في العراق، علی أن یلعب دور الوسیط و المنسق و الجامع الشامل للجمیع. ولذلك لیس غریبا أن یسمیە آیة اللە السیستاني، المرجع الشیعي الأعلی في العراق ب "صمام الأمان" في العراق.
ویقول طالباني عن هذا الدور: "لقد لعبت دورا توفیقیا بین جمیع الکتل العراقیة دونما أي تمییز، بحیث أنە عندما تشتد الخلافات بینهم، یطلبون مني القیام بدور الوسیط والمنسق، وذلك بسبب سلوکي العراقي في الرئاسة". ویذکر واقعة تؤکد هذا السلوك فیقول: " عندما جرت انتخابات مجالس المحافظات، وفازت في محافظة نینوی قائمة "الحدباء" ولم تحصل قائمة نینوی المتآخیة إلا علی ثلث الأصوات وضمن مبدأ التوافقات التي جرت علیها العملیة السیاسیة في العراق، وهو مبدأ مقرر بالدستور العراقي في المرحلة الحالیة وضمن ملحق بالدستور، إلا أنني لم أعترض، بل صادقت علی تشکیل مجلس المحافظة وتعیین المحافظ، بل واستخدمت حق الأخ الدکتور عادل عبد المهدي- نائب الرئیس آنذاك- في مجلس الرئاسة الذي کان مسافرا إلی باریس وقتذاك، ووقعت نیابة عنە کي لا أعرقل أو أؤخر المصادقة، هذا أحد الأدلة علی أنني لم أنحز لکردیتي، باعتباري رئیسا لجمهوریة العراق، ولو أردت التصرف ککردي فقط، لکنت أخرت المصادقة حتي مجيء الأخ عبد المهدي، أو لرفضت المصادقة علی نتائج انتخابات المحافظة، لکنني لم أفعل ذلك لأنني احترمت قرار الأغلبیة ولأنني تصرفت کرئیس لکل العراقیین".
وعندما تم اختیار جلال طالباني للرئاسة، التقی بجمیع الکتل السیاسیة الرئیسیة في العراق، لیطمئن إلی أن اختیارە جاء بالإجماع ، وأنە متفق علیە من کل الأطراف. کما عقد اجتماعا للمکتب السیاسي لحزب الاتحاد الوطني الکردستاني الذي یتزعمە، قال لهم فیە:"عندما أذهب إلی بغداد کرئیس للجمهوریة، سوف أخلع ملابسي الکردیة وأرتدي العباءة العراقیة لأتصرف کعراقي ورئیس لکل العراقیین دونما تمییز".
وهو یفتخر بأنە یتصرف کعراقي و کرئیس للعراقیین جمیعا، وقد طبق هذا أولا في مکتبە برئاسة الجمهوریة ببغداد، والذي یضم مستشارین من کافة مکونات وقومیات وطوائف وأدیان العراقیین، من العرب السنة والشیعة، والترکمان و المسیحیین والصابئة و الیزیدیین و الکاکائیین، کما أن مخصصات رئاسة الجمهوریة، أنفقت علی جمعیات و منظمات عراقیة عربیة ولم یصرف منها حتی %5  للمنظمات العراقیة الکردیة".
لم یسع طالباني لمنصب رئیس الجمهوریة، وعندما تم اختیارە لە، وافق لأنە نظر إلیە باعتبارە تکلیف وطني لا یصح أن یتأخر في تلبیتە، کما أنە یدرك مدی حساسیة المرحلة التي تتطلب أن یعمل الرئیس علی استقرار العراق ووحدتە، ولم شمل جمیع العراقیین.
وحسبما یقول طالباني:" في خارطة حیاتي لم أضع في أي من محطاتها شيء اسمە رئاسة الجمهوریة، وفي بدایة حیاتي کان طموحي أن أکون أستاذا في الجامعة، وعندما انخرطت في العمل السیاسي، کنت أعمل من أجل نظام دیمقراطي وإصدار جریدة، لم أکن أخطط لتحمل مثل هذە المسؤولیات، حتی في المفاوضات التي جرت مع الحکومات العراقیة لم ‌أرشح نفسي لأي منصب، وذات مرة طلبوا مني ذلك ولم أوافق. کنت أتمنی أن أکون رئیس تحریر صحیفة کما کنت في بغداد عامي 1959 و 1960 رئیس تحریر صحیفة "کردستان" بالکردیة، أو في أبعد الحدود أن أکون نائبا في البرلمان العراقي إذا توفرت ظروف، لکني کنت أتصور أنە في ظل عراق دمیقراطي یمکن أن یکون الرئیس شخصا کردیا، لکنە لیس جلال طالباني".
ویضیف:" اقترحت القیادة الکردیة أن یرشح مسعود بارزاني لرئاسة الإقلیم، وأن أرشح أنا لرئاسة جمهوریة العراق، کان هناك رأیان داخل المکتب السیاسي للاتحاد الوطني الکردستاني، الأول کان یری بقائي في السلیمانیة وقیادة الحزب، والإشراف علی الأوضاع و الحکومة المحلیة أفضل من الذهاب إلی بغداد، والر‌أي الثاني کان یعتقد أن وجودي ببغداد کرئیس للجمهوریة أفضل للعراق ولنا، أنا شخصیا کنت مع الرأي الأول وما کنت أرید الذهاب إلی بغداد، وبعد نقاشات طویلة أخذنا برأي الأکثریة التي کانت مع ذهابي إلی بغداد و الترشح لرئاسة الجمهوریة". 
کان طالباني یدرك أن المهمة شاقة، وأن التوفیق بین القوی السیاسیة في عراق ما بعد حزب البعث وصدام حسین، لیس بالأمر الهین، فهو أمر معقد جدا خاصة مع الأدوار الواضحة لقوی و أطراف دولیة وإقلیمیة في توجیە مواقف بعض القوی السیاسیة بما یتفق مع مصالحها، والتي کثیرا ما تتعارض مع مصلحة العراق و العراقیین، علاوة علی ما سبق فإن ما یصعب المهمة هو سیادة أجواء التخوین و الشکوك وتبادل الاتهامات بین التیارات السیاسیة وبعضها، وانعدام الثقة فیما بینها.
وسط حقول الألغام هذە تولی طالباني منصبە، واضعا نصب عینیە مصلحة العراق والعراقیین، وبدأ جهودە في قیادة سفینة العراق بمهارة وحنکة وانکار ذات، مستعملا کما یقول سیاسة "الوردة" ، فهو یؤمن بأن لغة الحوار وحدها هي القادرة علی تحقیق الاستقرار في العراق، وبناء الوطن الموحد الديمقراطي التعددي.
وتواصلت لقاءات طالباني مع قادة وأعضاء القوی والأحزاب السیاسیة، ومع مشایخ العشائر العراقیة وزعماء الطوائف و الدیانات و القومیات المتعددة، لم یستثن طالباني أحدا من هذە اللقاءات، ولم یقتصر لقائە بهم علی قصر الرئاسة، فکثیرا ما قام بزیارات لهم في أماکنهم، وحرص في کل المناسبات الوطنیة والدینیة والقومیة، علی أن یؤکد لأصحابها أنە یتذکرهم، وأنهم أحد مکونات الشعب والوطن العراقي.
جهود طالباني تجاوزت حدود العراق، لإدراکە أن تحقیق الاستقرار فیە مرتبط إلی حد کبیر بالخارج، سواء إقلیمیا أو دولیا، کما أنە یدرك أن العراق في هذە المرحلة في حاجة شدیدة إلی إعادة بناء علاقاتە الخارجیة علی أسس جدیدة، وفي حاجة کذلك إلی محو آثار السیاسات والمواقف العدائیة التي اتبعها نظام حزب البعث خارجیا، وأدت إلی عزلة العراق إقلیمیا ودولیا.
ونجح طالباني في جهودە وتحسنت العلاقات مع دول کان من المستحیل أن تتحسن معها، لأنها کانت ضحیة للنظام السابق، مثل الکویت وغیرها، کما تحسنت علاقتە بالسعودیة و سوریا وإیران وترکیا والأردن، ودول الخلیج العربي، ولم ینس طالباني مکانة مصر ودورها في حفظ الاستقرار في المنطقة.
 أن جهود طالباني و مساعیە الدائبة لتقریب وجهات النظر بین مختلف القوی والتیارات السیاسیة في العراق، لم تکن تقابل دائما بمواقف علی المستوی المطلوب. وهو یقول عن ذلك : " أعتقد أن التجاوب مع المحاولات الکثیرة التي بذلناها لم یکن بالمستوی المطلوب، وأنا أعتقد أن هناك أسبابا عدیدة للجمود في الموقف السیاسي، أو عدم تحریك الموقف نحو ما هو مطلوب. والأسباب منها عدم الثقة، لاتوجد ثقة کافیة بین السیاسیین العراقیین وحتی العاملین في الحکومة الواحدة أو في البرلمان، ثانیا عدم الالتزام بالاتفاقات السابقة واللاحقة وعدم الالتزام بالتضامن الوزاري، فتجد وزیرا یتکلم خارج مجلس الوزراء وکأنە معارض...نقطة أخری مهمة جدا وهي عدم الاتفاق علی برنامج عمل وطني سواء في الحکومة أو في البرلمان، وبالتالي هذە الاختلافات تؤدي إلی مواقف مختلفة، ویؤسفني أن أقول أن اللغة التي تستعمل في الخلافات هي لغة غیر حضاریة، لغة لا تلیق بالسیاسیین، ومثال علی ذلك عندما یختلف طرف مع موقف معین یصل الاتهام مباشرة إلی الخیانة والعمالة. ‌هذە اللغة؛ لغة الاتهامات بالعمالة یجب أن تمحی من السیاسة العراقیة، ویجب أن تکون بیننا لغة حضاریة، وتحلیل المواقف، وبیان اتفاقها مع المصالح الوطنیة، بدلا من تبادل الاتهامات التي تسمم الجو السیاسي في العراق.
جدير بالذكر أن السيد عبدالفتاح علي صحافي عضو في نقابة الصحافيين المصريين، ينشر مقالاته وتحليلاته في صحف ومواقع عربية وكوردية وهو خبير في الشؤون الكوردية، ورئيس مركز القاهرة للدراسات الكوردية الذي أسسه في القاهرة عام 2013، ومدير دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، والتي تهتم بشكل أساسي بتوثيق وتجسير العلاقات الثقافية بين الشعبين المصري والكوردي، ونشر الأعمال الفكرية والأدبية والإبداعية للمبدعين الكورد.
 

اقرأ أيضاً

أ.م.د. ژینۆ عبدالله

أهمية الرواية
Copyright © 2025 . PJT Foundation. All right reserved